تتداخل القصص دوماً عندما نبدأ بالحديث عن النساء السوريات في الحرب الدائرة منذ سنوات؟، وأسميها حرباً لأن هذا ما تشاهده النساء اليوم، لم تعد ثورتهن ولم تعد الوعود بالإصلاح والتغيير أموراً يصدقنها، فمن كانت تميل لإحدى الجهتين توقفت لتفكر في أمر واحد أننا نعيش اليوم في حرب، يجب الخلاص منها والبدء بحياة جديددة بعيدة عن القتل والتدمير، بعيدة عن أحباء هاجروا، أو هربوا، أو خطفوا، أوقتلوا، بعيدة عن كل هذا الدمار للبشر والحجر تقف النساء لتقاوم كل ذلك مكتشفة ضعف الرجل أمام كل هذا الحطام، مكتشفة قوتها بالصبر والتحمّل.
يضحك سائق التكسي وهو يخبرني عن زوجته التي تريد أن تتركه إن استمرّ بالتحكّم فيها: “والله يا أختي لم أعد أستطيع النظر في وجه زوجتي فمنذ أن ضربني رجل الأمن على وجهي أمامها وهي تقول لي روح استرجل عليه، والله معها حق كل عمرها بتفكرني بهدّ الحيط فجأة اكتشفت إني برجف قدام رجل أمن، بالحقيقة كنت مستقوي عليها لأنها امرأة لكنها اليوم تغيّرت وابنتي أيضاً لم تعد تسمح لزوجها بزجرها”.
يسخر السائق من الأقدار التي أظهرت للنساء أن كل هذه القوة والجبروت من الرجال عليهن ما هو إلا مظهر القوي على الضعيف وهذا جعلها تفكر مرّة أخرى في مقدراتها ومكانتها، القوة العضلية لن تفيد الرجال بعد اليوم، ولن يتحكّم فيها من يستخدم صوته وعضلاته، لها كيانها الذي ستخرج به الى العالم لتقاوم كل هذا الخراب..
يختم السائق قصته بقوله:”زوجتي وابنتي اليوم تعيلان أسرتنا ولولاهما لما استطعنا البدء من جديد، لم أكن أعلم انهما بهذه القوة وبهذا المقدار من الصبر والتفاؤل، فزوجتي أصرت أن أعمل سائق تكسي وباعت كل مصاغها المتبقي وكذلك ابنتي التي عملت مع امها في صناعة الحلوى وبيعها في وقت كنت أبكي وأندب حظي على عملي الذي فقدته مع بيتي الذي هدّم”.
وتخبرني إحدى السيدات الجالسات على مقعد مهتريء في حديقة بدمشق:”لقد حاولت الحرب أن تأخذ منا كل شيء بعد أن اعتقل زوجي وخرجنا من دوما، تلوّعت الى أن آوتني قريبتي في بيتها لأعيش بإحدى الغرف مع أولادي، وكانت البداية جيدة الى أن بدأ زوجها يتودد لي، ووقعت بين نار سكوتي عن تودده وبين حاجتي، وهنا قررت أن أستقوي بالضعف والحاجة فكرامتي وقوت أولادي هم الأهم في حياتي”، تتابع فتتحدث عن خروجها من البيت وبحثها عن عمل لتبيت ليال في حديقة جمعتها مع عدد من العائلات، فشروط مركز الإيواء لم تكن كافيه لإيوائها، وبدأت تعمل في ورشة خياطة اعتمدت فيها على خبرتها السابقة، وأثناء جلوسها في الحديقة كانت تجتمع مع النساء ليصنعن وسائد وأغطية وجزادين من بقايا الألبسة والأقمشة وقمن ببيعها على جدران الحديقة وبالفعل كان الناس يقبلون على شراء تلك البضاعة وهذا أعانهن على استئجار بيت مشترك لتبدأ كل سيدة حياتها بشكل مستقل مع المشروع الصغير الذي صنعنه بأيديهن والذي كان كافياً لسدّ الأجرة ..
تبتسم (نداء) وهي تقول:”جمعني مع النسوة المشروع المشترك والبيت وجرعات من الألم فكلّ واحدة منّا تنتظر خبراً عن زوجها المعتقل أو المسافر أو المفقود، وأطفال صغار يحتاجون الملبس والطعام والدراسة، لكن قرارنا بأن لا نكون لقمة سائغة وبأننا سنقف لنغيّر حياتنا وسط الحرب والخراب كان السبب في قوتنا وصبرنا على كل التعب، التعاون هوالأساس في كل شيء”، تغادر الحديقة بعد أن تطلب مني الكتابة عن عملها كي يعرف الجميع أن النساء لهنّ دور كبير في دعم أسرهن وأنهن لسن على هامش الحياة..
كالعادة في سورية لا توجد مراكز احصاءات دقيقة وواضحة تشير الى التغيير في المجتمع وخاصّة فيما يتعلق بالنساء المعيلات لكن يمكن الحديث عن ذلك من خلال مراقبة سوق العمل للأسف ما نعنيه هو العمل في الظل، وهو الذي لا ينتمي الى القطاع العام أو القطاع الخاص، بل هو خارج عن مراقبة الدولة، فهو يعيش في العتمة بمعنى أن العاملين|ات فيه لا يمكن إحصائهم ولا دعمهم صحياً أو قانونياً، فهم غير مسجّلين ولا يعترف بقوة عملهم، لكن بالحقيقة هو عمل موجود وأكثر روّاده من النساء في الخياطة خارج الورشات المرخّصة وبيع الخضار وتقميعها والعمل المنزلي و شطف الأدراج وصنع المأكولات ولوازم التجميل في البيوت وللأسف تكثر الدعارة والاستغلال للنساء العاملات في كل تلك المجالات السابقة تحت مسميات كثيرة لكنهن معيلات بغض النظر عن عملهن، وهذا طبيعي في الحروب والكوارث حيث يموت الرجال في الحرب أو يذهبون الى الجبهات لسنوات أو يعتقلون أو يخطفون أو يفقدون عملهم ليظهر دور المرأة بقوّة ولتنقلب معايير المعيل في العائلة لتظهر المرأة المعيلة والتي تبدأ في التعرف على نفسها وقوتها وتشعر باستقلالها الاقتصادي الذي سيدعمها يوماً ما لتغيّر بنفسها العادات والتقاليد والقوانين المعيقة لها،,و هذا يحتاج لسنوات تخطّها اليوم النساء السوريات لتحاكي بها النساء الألمانيات اللواتي بنوا ألمانيا بعد الحرب.